قبل أيام، وفي غمرة العدوان الهمجي الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزة كنت أحاول متابعة ((العاجل)) من الانباء على شاشة إحدى القنوات حين مر شريط يقول حرفيا: «اميركا لن تتوقف عن العمل على تحقيق حل الدولتين"!! فهل هذا حقاً نبأ عاجل وسط المعمعة المروّعة، أم قديم مكرر ما انفكت أميركا تردده عبر نصف قرن على الاقل؟ وهل هو كلام جاد أم هزْل عبثي ضبابي يروّجه الإعلام الأميركي بعد أكثر من مائة يوم من حرب الإبادة والتطهير العرقي الحاقد نتيجة القصف الإسرائيلي التدميري على غزة باستخدام السلاح الأميركي المدعوم بالتمويل السخي والتوجيه الاستخباراتي؟! أم أن الأمر يتعلق بالتمهيد لمخططات ما بعد وقف إطلاق النار من توزيع الادوار بما في ذلك العودة الى ما اصطلح على تسميتها بـ((العملية السلميّة)) التي كانت أميركا «تقودها» لأكثر من نصف قرن،منفردةً وباستبعاد تام لمنظمة الأمم المتحدة وهيئاتها المعنية، منذ قال السادات ذات يوم بعد كامب ديفيد إنها تملك 99% من أوراق الحل ! ثم جاءها التفويض المزور من قبل بعض حكومات المنطقة!!
ولإنعاش ذاكرة القارئ حول هذا المسلسل التضليلي الغادر أعود الى الوراء ستة وعشرين عاما حين كتبت في نفس هذه الصحيفة في ١٥/١/١٩٩٨ مقالًا استندت فيه الى حديث على الـ(CNN) مع باحثة أميركية في معهد الدراسات السياسية في واشنطن لم استطع يومئذ التقاط اسمها لكني سجلت بعض ما قالته على قصاصة اقتبست منها التالي».. بكل صراحة لقد ماتت العملية السلمية التي ترعاها أميركا وذلك للأسباب التالية:
1. أن محاولة إقرار السلام بين فريقين متخاصمين تحتاج لحد أدنى من توازن القوى، فكيف تكون بين طرف قوي جدا هو إسرائيل وطرف ضعيف جدا هو الفلسطينيون.. ذلك ما كان على أمريكا أن تدركه بإخلاص، وأن تحاول بما لها من نفوذ ووزن في العالم والمنطقة ولدى إسرائيل بالذات، أن تدير عملية السلام بحيث لا تترك الطرف القوي يزداد قوة ليفرض كل شروطه، وان تترك الطرف الضعيف يزداد ضعفاً ليقبل بأي شيء، وعندها لن تكون النتيجة سلاما بل هيمنة من طرف واستسلام من طرف آخر وبرعاية أميركا نفسها.
2. تركت أميركا إسرائيل منذ البداية تتوسع في بناء المستوطنات بدل إلزامها بوقفها، وأقصى ما فعلته حين تأزمت الأمور مجرد الإيماء بضرورة إبطاء البناءSlowdown!
3. لم تستعمل أميركا مصطلح «احتلال الأراضي» أو عبارة «الانسحاب من الأراضي المحتلة»، بل كانت تسميها - تمامًا كما تسميها إسرائيل - «المناطق» دون نعتها أو صفتها بالمحتلة!
4. لم تذكر أميركا أبدا الدولة الفلسطينية مع أنها النتيجة الحتمية لسلام الفلسطينيين مع دولة إسرائيل.. ومع أن أحزاباً في إسرائيل وعلى رأسها أجزاء من حزب العمل أصبحت تقول بحتمية الدولة الفلسطينية.
5. ساندت أميركا إسرائيل في إلحاحها على السلطة الفلسطينية ان تقضي على الإرهاب مع أنها – أي إسرائيل نفسها – لم تستطع ان تقضي عليه حين كانت هي المسيطرة كليا على الضفة والقطاع.. كما أن أميركا تعلم تماماً أن الإرهاب ينمو ويترعرع كلما انخفض مستوى المعيشة وازداد الفقر وانتشرت البطالة، وأميركا تعرف أن ظروف الفلسطينيين الآن مع الحصار المتكرر من قبل إسرائيل قد ساءت كثيراً إلى أن وصل معدل دخل الفرد نصف ما كان عليه قبل استلام السلطة لعملها.
6. أميركا تحاول كل الوقت استبعاد أوروبا – ربما بناء على طلب من إسرائيل – مع ان لأوروبا دوراً مفيداً يمكن ان تلعبه، إذ ان لإسرائيل مصالح معها لا تستطيع تجاهلها».. انتهى الاقتباس من كلام «الباحثة الأمريكية حسنة النية عام ١٩٩٨!
وبعد.. من المؤكد أن أميركا ما زالت ماضية في سياسة الهيمنة على منطقتنا ولو بتدميرها، كجزء من هيمنتها على كثير من أجزاء العالم حيث تدير الصراعات حسب مصالحها أولاً، ثم تمعن في التمويه علينا بمواصلة القاء شعار ((حل الدولتين)) ولا يتورع رئيسها بايدن ان يقول قبل ايام إن الدول «أنماط متنوعة”! وكأنها بضاعة معروضة في الاسواق أو أراضٍ تشتريها كما فعلت الولايات المتحدة في تاريخها غير البعيد بصفقة بخسة مع جارتها الجنوبية (المكسيك) وأطلقت على الولاية الجديدة اسم نيومكسيكو (!)، فالأمر عندها ليس وطناً حرًا مستقلًا ذا سيادة وشعباً ذا كيان وكرامة..وتاريخ مجيد.
هل نخطئ لو قلنا: لا شيء في موقف حكومة اميركا قد تغير لكن الذي نتمنى أن يكون قد تغيرَ وازداد وعيًا على القضية الفلسطينية بعد طوفان الأقصى في ٧ اكتوبر فهو موقف الشعب الأميركي نفسه بإدراكه أكثر فأكثر لخطر سياسات «المجمع العسكري الصناعي» على مقدراته كما حذر منها رئيس الولايات المتحدة الأسبق دوايت آيزنهاور في خطبة الوداع عام ١٩٦٢.. والأيام القادمة حبلى بالمفاجآت!